باب فى فصل الجيش عن السياسة

 واعلم أن الشعوب أوجدت جيوشها لتحرسها، لا لتحكمها. 

وأن ما من أمة ساسها جيشها إلا أَهلكَت، وهلكت. 

فالجيوش تُساس، لا تسوس. 

وما اعتاد الجُند إلا الأمر والطاعة، لا التفكير والتدبير. 

وليس على الجُند في ذلك حرج، فكلٌ ميسر لما هو أهل له.

وليس في ذلك نقصان فيهم ولا انتقاص منهم، ولا شك في محبتهم لبلدانهم، ولا في محاسن مقاصدهم ونواياهم. 

فالجند غايتهم الموت لا الحياة. وهم يسوسون أرواحهم وأبدانهم إلى التضحية في سبيل شعوبهم وأوطانهم. 

فغاية الموت لديهم نبيلة المقصد، لكن نبلها لا يستقيم مع غاية الحياة، وإن استقام استثناءً، فإن الاستثناء يعود إلى قانونه، بزوال ظرفه، وبطلان حجته.

ثم اعلم أن الجيوش إذا اقتربت من الحكم فسدت وأفسدت. 

وأنها إذا تولته انحرفت عن مهمتها، فأفسدتها، وأفسدت الغاية من الحكم، وهي تدبير أمور الناس، بما يسعدهم ويؤمّنهم.

والجند لا طاقة لهم، ولا علم، بأمور السياسة والحكم. وهم عالمون ببواطن الصحارى والتلال والهضاب وصنوف الأسلحة وأعمالها وإعمالها، لكنهم قليلو معرفة بدهاليز السياسة وألاعيبها وسراديبها. 

ولو أن قائلا قال، متبصرا، إن جنديا ألبانياً سيأتي، في قادم الأيام، إلى مصر،فينقلها من حال إلى حال، وينقذها من التخلف والضلال، فليس عليك إلا أن تخبره بما سيأتي بعده من أحداث، ومن سيأتي من سلالته ليظلم ما أنار، ويفسد ما أصلح، ويضل من هدى.

ثم اعلم أن الجيوش إذا ذاقت دعة الحُكم استمرأتها، فاسترخت، وأرخت قيادها، واستكانت إلى طيب العيش، فانتقلت عدواها من مرتبة إلى مرتبة، وتناست ما أوجدتها شعوبها من أجله. 

وإذا استرخت الجيوش تحللت، فانتبهت أعاديها، وطمعت في البلدان، وأوغلت في ربوعها، وأفسدت فيها. 

فالجيوش تولي وجوهها صوب جيرانها، وتدير ظهورها إلى أوطانها، وتلك هي القاعدة في كل زمان ومكان. 

وما كان من استثناء لتلك القاعدة إلا جرّ وراءه الهزائم والخراب وانهيار الدول وسقوطها في ظلمات تلو ظلمات.

وفصل القول أن لا يغرنّك معسول القول، ولا يخدعنّك ظاهر الفعل، فلم تتعلم الأمم إلا من أخطائها، ولم يكن لها أن تنهض إلا بتدارك مثالب ماضيها، فانظر إلى الماضي تبصر المستقبل، والله المستعان على ما يزمعون.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ربما نلتقي

دعينا نزيح الستار