وحدك
بعيدًا عن من تعاملوا مع مفهوم الوعي بسطحية مفرطة، أو بالعكس وكأنه تهمة
الوعى ولو أنه شئ يثقل صاحبه الا انه يجد نفسه واقفًا على حافة شيء أعمق
وكأنه إمتلك نور يكشف الطريق ويعرّي الظلال، ويضع الإنسان في مواجهة نفسه أولاً، ثم العالم.
كلما اتّسع وعيُك، اتّسعت وحدتك.
مفارقة غريبة في ظاهرها.. إذ يفترض المرء أن الوعي يقربه من الناس، وأن رؤية ما لا يُرى وفهم ما لا يُفهم يجعل الروابط الإنسانية أعمق وأقوى. لكن ما يحدث هو العكس!
فكل خطوة نحو فهم أعمق للأشياء تُباعد بينك وبين الآخرين مسافةً لا تُقاس بالأمتار، بل بالبصيرة.
تنظر إلى مجتمع يعجّ بالضحكات، ويتفاعل الناس مع أشياء لا تلمس فيك شيئًا، ويتحادثون في شؤون تبدو لك سطحية وبلا وزن. فتبتسم، وتومئ برأسك، وتتماهى مع الجو العام، بينما روحُك تسبح في مكان آخر تمامًا. هناك، خلف النقاشات التافهة، حيث يدور الحوار الحقيقي
الأسئلة التي لا تُقال، والأنماط التي لا يلحظها أحد، والحقائق التي تمرّ صامتة بين الجمل.
وحين تبصر ذلك كله دفعة واحدة، تدرك أنك وحيد.
لا وحدة الجسد، بل وحدة الروح والفكر. وهذا هو الثمن الخفي للوعي!
العزلة التي لا يخبرك بها أحد، والتي لا تأتي من اختلافك عن الناس، بل من اختلاف رؤيتك للعالم.
فالوعي ليس كثرة معلومات، بل عمق إدراك. هو القدرة على وصل ما لا يبدو مرتبطًا، وعلى إتمام الفكرة إلى نهايتها الطبيعية، حتى لو قادتك إلى منطقة لا يرغب الآخرون في بلوغها.
معظم الناس لا يريدون النظر إلى ما وراء الصورة
بل يريدونها كما هي، دون تساؤل، ودون رغبة في معرفة ما تحت الأقنعة.
أما أنت، فلا تستطيع غضّ البصر. ترى الخيوط المنفلتة من النسيج، وتلحظ التناقضات، والاتفاقات الصامتة التي يتعامل معها الجميع كأنها مسلّمات لا تُمسّ.
وحين تشير إليها ينقبض الآخرون. ليس لأنك مخطئ، بل لأنك محق!
والحق الذي لا يريده الناس يُخيفهم، فيبتعدون عن مصدره.
فتقف على ناصية الأشياء حولك حيث تغدو الأحاديث ضحلة لا عمق فيها،
وتصبح متهم بأنك "مُفرِط التفكير"
فتتعلم إخفاء أفكارك..تُخفّف ما تستطيع، وتتحدث بجزء من الحقيقة، وتضحك على ما لا يُضحكك، وتهزّ رأسك موافقًا على ما لا تؤمن به. تتعلم أن تختبئ، لأنك تكتشف أن الصراحة المطلقة نوع من الانتحار الاجتماعي، وأن التعبير الحقيقي عن الذات مسار يقودك إلى الوحدة.
وبين الناس تجد نفسك غريبًا: حاضرًا بجسدك، غائبًا بروحك. تتحدث دون أن يُسمع صوتك، وتشارك دون أن تكون جزءًا حقيقيًا من أي شيء. وليس السبب أنك ترى نفسك أعلى من الآخرين؛ بل لأنك تمنّى—لو استطعت—أن تنتمي، أن تجد المعنى في ما يجدون فيه المعنى، وأن تتفاعل بصدق مع ما يبهجهم. لكنك لا تستطيع؛ فقد مضيت بعيدًا في دروب لم يصلوا اليها، ورأيت ما يجعل العودة إلى السطح ضربًا من التمثيل.
فما إن ترى الأنماط حتى يستحيل ألا تراها، وما إن تعرف الحقيقة حتى يصعب أن تعود إلى الجهل، وما إن تفهم التعقيد فلن ترضيك البساطة.
أما الآخرون، فيعيشون راضين بالسرديات المريحة، والإجابات الجاهزة، واليقينات المصنوعة. يؤمنون بما يُطلب منهم الإيمان به، ويخافون ما يُقال لهم إنه مخيف، ويرغبون فيما يُملى عليهم أنه مرغوب. ليس لقصورٍ فيهم، بل لأن ذلك أسهل، وأأمن، وأبعد عن الوحدة. أما أنت، فلم يعد بإمكانك أن تحيا داخل هذه الدائرة، ولهذا فمرجح أن تجد نفسك وحيدا
لأنك ترى العالم بشكل مختلف
ترى أن العالم لا يسير كما يُفترض أن يسير، وأن الناس يقولون ما لا يفعلون، وأن المجتمع يرفع راية الحقيقة لكنه يعاقب من يقولها. فتظن أنك أنت الملتبس، وأنك وحدك لا تفهم القواعد التي يبدو أن الجميع يتقنها بالفطرة. فتراقب، وتدرس، وتحلل، وتحاول… وتحاول أكثر.
تعليقات
إرسال تعليق
إضافة تعليق